البرنامج الأسبوعي

المنهج التربوي عند أم البنين (ع) – الأستاذة مريم الرفيعي

استضافت مؤسسة دار الحكمة في برنامجها الأسبوعي يوم الجمعة ٢٩ يناير،الباحثه في الشؤون الدينية الاستاذة مريم الرفيعي، في أمسية تحت عنوان "المنهج التربوي عند السيدة ام البنين (ع). ونرفق لكم النص الكامل للكلمة. 

مقدمة

      نحن اليوم في ضيافة سيّدة عظيمة خلّدها التاريخ بين صفحات الفخر والاعتزاز والاقتداء .. وامتثالاً إلى هذا الخلود التاريخي المشرّف؛ سنتناول اليوم في مناسبة تصادف ذكرى وفاتها أو استشهادها كما يذهب بعض المحقّقين ! .. منهجَها التربوي الذي استحقّ في كل زمان بالرغم من متغيّراته وتقلّباته في أحضان الحداثة والعولمة وغيرهما؛ أن يكون منهجاً نموذجيّاً يُستنطق في تصويباته ويُتّبع في آثاره الآنيّة ويُتأمّل في آفاقه المستقبلية ..

     إن العناية الفائقة التي أولتها السيّدة أم البنين (ع) للتربية انبثقت من إحاطتها العلميّة بالدين الذي أصّل للتربية وقنّل مستلزماتها وضروراتها وجوانبها ومقاصدها وجوهرها وطرقها؛ بما لا يدع فراغاً، ولا يورث عوزاً، ولا يُنتج فقراً، ولا يُفرغ سوءاً، ولا يُنشئ ثغرةً، ولا يوقظ فتنةً، ولا يُولّد خسةً، ولا يوقع دنيّةً، ولا يُؤتي نقيصةً ..

 <<لأنه تأصيل تربوي شامل، ومكتمل، ومهتدٍ، وهادٍ بإذنه تعالى وتوفيقاته.

    لقد اعتمد منهجها التربوي على مرتكزين متلازمين، منسجمين، ملتصقين، مقترنين حدّ التجسّد والتمثّل الواحد .. حتى أنه قد يضيع منا نحن المتعلّمون على سبيل النجاة إحداث الفرق بين سمة الدين وصفة الخلق لقوّة اتحادهما. بينما يغرق الهمج الرعاع في اعتبار السمت الديني وإهمال حركته السلوكية المترجمة بالأخلاق. فالمظهر مظهر الإسلام والمبطن محاضن للكفر بأنواع شتّى ..! حتى أصبحت العبادات عادات؛ والعادات حكومات وحاكميّات تسلّلت بخفاء عبر الزمان والمكان لتقوم بتصفية العبادات بمصفاة الهوى والذاتية النفعية المتزمّتة وهي مصفاة مقلوبة معطوبة أدخلت ما كان يجب أن يخرج وأخرجت ما كان يجب أن يدخل!!! وهذا هو الفصام النكِد.

   لكن قبل الدخول في منهجها التربوي؛ لابد لنا من إضاءات سريعة على ممهّدات هذا المنهج التي كوّنت شخصيّتها الرشيدة وصقلت صفاتها الحميدة حتى استحقّت أن تكون حليلة الإمام علي (ع) ووريثة الزهراء (ع) فيه وفي أطفالها منه.

وهذه أبرز الممهّدات:

1. عرقها الدسّاس ما بين العمومة والخؤولة:

ــــ من جهة الأب: فأبوها حزام بن خالد بن ربيعة بن وحيد بن كعب بن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان.

ــــ من جهة الأم: فأمها ثمامة بنت سهل بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب.

    ولقد تجمّعت في أجدادها الصفات الحميدة؛ فكانوا فرسان العرب في الجاهلية، ولهم الذكريات المجيدة في البسالة والزعامة والفروسية حتى أخضعوا لهم الملوك. وهذا نسب عناه عقيل بن أبي طالب ــــ أمهر النسّابة ــــ بقوله: "ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس". وقد جاء قوله هذا حينما سأله الإمام علي (ع) ــــ وهو أخوه ــــ قائلا: " انظر لي في امرأة ولدتها الفحولة من العرب، من ذوي البيوت والنسب والحسب والشجاعة؛ لكي أصيب منها ولداً يكون شجاعاً وعضداً، ينصر ولدي هذا، وأشار إلى الحسين عليه‌ السلام يواسيه في طف كربلاء".

ويستوقفنا في سؤال الإمام علي (ع) لأخيه عقيل أموراً مهمة، هي:

ــــ الاعتماد على أهل الخبرة والاختصاص.

ـــــ التقصّي عن سمعة الزوجة المستقبلية من خلال السؤال عن نسبها والبيئة التي نشأت فيها.

ــــ أهمية " الجاهزيّة التربوية" المتحققة في الذات، وقابلية هذه الذات في بثّها في الآخر من باب التحلّي.. (فقد يكون الإنسان متدينا وخلوقا؛ لكنه لا ينجح في تكوين أبنائه بنفس ما هو عليه).

وهذه الجاهزية التربوية التي عند السيدة أم البنين (ع) استحقّت ختم أمير المؤمنين (ع)؛ ختم المباركة والمصادقة يوم اقترن اسمها باسمه سلام الله عليهما..

2. الخبر الشهودي ودليله البرهاني:

ــــ قبل ولادتها (ع): كان حزام بن خالد بن ربيعة في سفر له مع جماعة من بني كلاب، نائم في ليلة من الليالي فرأى فيما يرى النائم كأنه جالس في أرض خصبة وقد انعزل في ناحية عن جماعته وبيده درة يقلبها وهو متعجب من حسنها ورونقها وإذا يرى رجلاً قد أقبل إليه من صدر البرية على فرس له فلما وصل إليه سلم فرد عليه السلام ثم قال له الرجل بكم تبيع هذه الدرة، وقد رآها في يده فقال له حزام إني لم أعرف قيمتها حتى أقول لك ولكن أنت بكم تشتريها فقال له الرجل وأنا كذلك لا أعرف لها قيمة ولكن اهدها إلى أحد الأمراء وأنا الضامن لك بشيء هو أغلى من الدراهم والدنانير، قال ما هو قال اضمن لك بالحظوة عنده والزلفى والشرف والسؤدد أبد الآبدين، قال حزام أتضمن لي بذلك قال نعم قال: وتكون أنت الواسطة في ذلك قال وأكون أنا الواسطة أعطني إياها فأعطاه إياها.

فلما انتبه حزام من نومه قص رؤياه على جماعته وطلب تأويلها فقال له أحدهم ان صدقت رؤياك فإنك ترزق بنتا يخطبها منك أحد العظماء وتنال عنده بسببها القربى والشرف والسؤدد.

فلما رجع من سفره، وكانت زوجته ثمامة بنت سهيل حامل بفاطمة أم البنين وصادف عند قدومه من السفر ان وضعت فبشروه بذلك فتهلل وجهه فرحاً وسر بذلك، وقال في نفسه قد صدقت الرؤيا، فقيل له ما نسميها فقال لهم سموها: «فاطمة».

ـــــ قبل الزواج المبارك: لما جاء عقيل بن أبي طالب لخطبة أم البنين (ع)، قام حزام من مجلسه قاصدا أهله؛ فلما قرب من المنزل رأى فاطمة جالسة بين يدي أمها وهي تمشط رأسها وفاطمة تقول: )يا أماه أني رأيت في منامي رؤيا البارحة، فقالت لها أمها خيراً رأيت يا بنية قصيها علي:

فقال حزام في نفسه انتظر حتى أسمع ماذا رأت في منامها، فوقف في مكانه بحيث يسمع الصوت ولا يراه أحد.

فقالت فاطمة لأمها: إني رأيت فيما يرى النائم كأني جالسة في روضة ذات أشجار مثمرة وأنهار جارية وكانت السماء صاحية والقمر مشرقاً والنجوم ساطعة وأنا أُفكر في عظمة خلق الله من سماء مرفوعة بغير عمد وقمر منير وكواكب زاهرة، فبينما كنت في هذا التفكير ونحوه وإذا أرى كأن القمر قد انقض من كبد السماء ووقع في حجري وهو يتلألأ نوراً يغشي الأبصار، فعجبت من ذلك وإذا بثلاثة نجوم زواهرٍ قد وقعوا أيضاً في حجري وقد أغشى نورهم بصري فتحيرت في أمري مما رأيت وإذا بهاتف قد هتف بي أسمع منه الصوت ولا أرى الشخص وهو يقول:

بشـراك فاطمة بالسادة الغـرر          ثــلاثة أنجم والـزاهر القــمـر

أبــوهم سيد في الخلـق قاطبة           بعد الرســول كذا قد جاء في الخبر

فلما سمعت ذلك ذهلت وانتبهت فزعة مرعوبة، هذه رؤياي يا أماه فما تأويلها؟

فقالت لها أمها: يا بنية إن صدقت رؤياك فإنك تتزوجين برجل جليل القدر رفيع الشأن عظيم المنزلة عند الله مطاع في عشيرته، وترزقين منه أربعة أولاد يكون أولهم وجهه كأنه القمر وثلاثة كالنجوم الزواهر.

فلما سمع حزام ذلك أقبل عليهما وهو مبتسم ويقول: يا بنية قد صدقت رؤياك. فقالت الام: وكيف علمت ذلك ؟ قال: هذا عقيل بن أبي طالب جاء يخطب ابنتك، قالت: لمن قال لفلال الكتائب ومظهر العجايب وسهم الله الصائب وفارس المشارق والمغارب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

قالت: وما الذي قلت له؟ قال: أمهلته حتى أسألك عن ابنتك، هل تجدين فيها كفاءة بأن تكون زوجة لأمير المؤمنين؟ واعلمي أن بيته بيت الوحي والنبوة والعلم والآداب والحكمة فإن تجديها أهلاً لأن تكون خادمة في هذا البيت وإلا فلا. فقالت: يا حزام اني والله قد ربيتها وأحسنت تربيتها وأرجو الله العلي القدير أن يسعد جدها وأن تكون صالحة لخدمة سيدي ومولاي أمير المؤمنين فزوجها( .

وإنه لموقف عظيم ورفيع أن يرى حزام وثمامة كل ما اشتُهرت به ابنتهما من تديّن، وأدب، وفصاحة .. قليلاً في حق من ستكون زوجة لأمير المؤمنين (ع).

وهذه الأخبار الشهودية ثبتت واقعيتها وصحّتها بالعقل البرهاني أنْ تزوّجت أم البنين (ع) بالإمام علي (ع) حقيقةً، كما أنها أيضا أنجبت منه القمر والثلاثة نجوم: العباس، عبد الله، جعفر وعثمان.

3. أم البنين قدوة من قدوة:

    إنني لا أملك في هذا الزعم دليلاً غير أنني لا أستثني عظيمة في الإسلام ممن ارتبطت سيرتها بأئمة أهل البيت (ع) ارتباط ولاء ووفاء وحب؛ ألا تكون قد ارتوت من معين سيدة نساء العالمين (ع). فكيف بأم البنين (ع) هذه الفاضلة والوجيهة عند الله تعالى؛ أن لا تكون قد نالت حظاً وفيراً من خطى الزهراء (ع) في الدين، والعلم، والأدب، والشجاعة، والفصاحة .. وإلا ما كانت لتستحقّ من الله هذا المكان الرفيع والله يرضى لرضا الزهراء (ع) ويغضب لغضبها ..

فالنزر القليل الذي جاء في حق أم البنين (ع) كان متعمّداً لطمس سيرتها من شدّة عدائها وفضحها للتيّار الأموي المتجبّر الطاغي بعد واقعة الطفّ.

الاستراتيجية التربوية للسيّدة أم البنين (ع)

1. الربط الوثيق بين الناشئ والخالق:

     لقد علمت السيّدة أم البنين (ع) أنها في مهمة عظيمة؛ هي إنجاب أنصار للإمام الحسين (ع)، ومطلوب منها أن تربّيهم على الموت دونه، ولولا أنها هي نفسها لا تتحرّك إلا في مدار الارتباط الوطيد بالخالق عز وجل ما كانت لتتوفّق في تنشئة أربعة فرسان كبدور الدجى يبذلون أنفسهم فداء للحسين (ع) أي فداء للدين.

     و لقد حرصت على فطرتهم السليمة اليقظة بنفض الغبار والرماد عنها عن طريق التذكير بالله عز وجل وباليوم الآخر، وبالفوز العظيم بالشهادة بين يدي إمام زمانهم.

    ولعلّ هذا ما يوضح لنا أمراً مهمّاً جدّاً وهو إلمام هذه السيّدة الفاضلة بالمنهج القرآني في تكريس الأمور الجوهرية. فإننا لا نجد صفحة في القرآن الكريم إلا وذكّر الرحمن فيها بالمعاد واليوم الآخر. والله عز وعلا في محكم كتابه يرتّب لنا الأولويّات إذا ما غفلنا عنها انشغالا بالدنيا ومغرياتها؛ فيرتّب لنا الزمان والمكان بعكس ما ننظر إليه نحن كرونولوجيا من أن الدنيا أولا والآخرة ثانيا! ليكرّس ويثبّت لنا في كل صفحة من الكتاب الحكيم أن الآخرة  هي المرتقى والمبتغى والمنتهى .. وأن الدنيا إلى زوال لأنها "طريق سفر". فلا يجب أن ينسينا طول السفر بأن لسفرنا نهاية، وهي إما أن تكون نهاية يرتاح فيها المسافر من سفره أو نهاية يشقى فيها المسافر أيُّما شقاء .. شقاء يفوق عناء السفر بأضعاف مضعّفة.

   والسيّدة أم البنين (ع) لم تورث في نفوس أبنائها ذمّ الدنيا وكراهيتها كما يفعل مغالو الصوفية، على العكس؛ إنما عرّفتها بالمقصدية العبادية "وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون" (الذاريات - 56) ، كوسيلة وليس غاية؛ وسيلة أثبتت من خلالها هي وأبناؤها الأربعة أنهم على هدي الله بطاعة إمام الزمان.

2. مجاهدة الفيتيشية والقارونية والفرعونية:

   إن هذه المرأة الجليلة القدر لم تكن طالبة دنيا؛ فحاشاها من عبادة الأشياء والتعلّق بغير الله تعالى ومن اصطفاهم على العالمين .. لم تدخل بيت أمير المؤمنين (ع) بحب التسلّط والاستغلال، إنما دخلته على ولاء منها ووفاء لأهله؛ فلم تخن عهداً ولم تخلف وعداً.

    هكذا ربّت سلام الله عليها أولادها حتى استحقّ قمرهم العباس (ع) أن يحمل لواء أخيه الحسين (ع) يوم الطفّ. وهي حركة سيميائية تذكّر بالعلاقة "الهاروموسوية" إلا أن العباس ليس بالإمام.

    أين نحن من هذه الاستطاعة في تهذيب النفس ومجاهدة حظوظها، واليوم نساؤنا وأبناؤنا غارقونا في الفيتيشية حتى جعلوا من السوق إلهاً يُعبد من دون الله. فمنا من تذهب بتفلسفها وتشقشقها إلى تفسير هذه الألوهية بـ "الأمر الواقع" كأثر للعولمة والحداثة، وهي أحدوثة لصيقة بالضعفاء المنهزمين نفسيّاً لعدم قدرتهم على مواجهة الواقع وتغييره، أو تسمية الاندفاع نحو الدنيا "بحب الكماليات"! أو ليست السيدة أم البنين (ع) امرأة شأنها شأن كل النساء ؟ لقد كانت امرأة زاهدة عابدة لم تتعلّق إلا بكماليات الدين والأخلاق، وكذا أنشأت أولادها؛ فلم يستزلّهم الشيطان ببريق الدنيا، بل نظروا إلى نِعم الرحمن فيما وعدهم به في تلك الدار بجوار النبي وأهل بيته (ع).

3 . التربية بركائز السنة: 

وأقصد بركائز السنة: القول والفعل والتقرير.

     ونحن مع الأسف نربّي أولادنا تربية إملاء أوامر وفرض ضوابط نحن أنفسنا لا نلتزم بها، نحدثهم عن حب الله ونحن لا نخلص فيه، نأمرهم بالمعروف ونرتكب المنكر، نكلّمهم عن الزهد ونحن مستلبون بالدنيا والمظاهر التي تثبت إمّعيتنا وقرديّتنا عوض أن نثبت مقاومتنا وتحدينا لها. حتى التديّن أنزلناه كضرورة للشكل الاجتماعي فقط، ولا يهمّ إذا كان الباطن مسوّساً لا يُتداوى إلا بالقلع جذريّاً لبداية أخرى سليمة ومتينة تفرغ الباطن البرّاق على المظهر الأخّاذ كضرورة منطقية للعقل والقلب السليمين. فإننا إذا نظرنا من مرآة الدين والخلق لأم البنين رأينا أولادها الأربعة، لأنها حاشاها لم تنقض قولا بفعل يعكسه ولم تقرّر ما يخالفهما. فلقد ترجمت هي وأبناؤها الولاء لإمام الزمان قولا وفعلا وتقريرا في أبهى صور الطاعة والشجاعة..

4. التربية على أساس العلم:

    لقد كُتب لهذه الفاضلة أن تعيش في بيت ملؤه العلم والحكمة؛ فتهيّأت لصقل ما لديها من إمكانيات وتزوّدت لتقوّم المنهج وفق ما يرتقي ليكون المنهج الأكثر قرباً واقتداء بمنهج المعصومين (ع).

    والعلم ـــــ على نوع ـــــ يعصم صاحبه من الذنب واقتراف المعصية والوقوع في الخطأ كما جاء في تعريف العصمة عند مدرسة أهل البيت (ع) بحسب ما ذهب إليه أصحاب الاتجاه الأول وأشهرهم السيد الطباطبائي (قدّس سرّه) من أن العصمة: "نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبس بالمعصية والخطأ، وبعبارة أخرى علم مانع عن الضلال، كما أن سائر الأخلاق كالشجاعة والعفة والسخاء كل منها صورة علمية راسخة موجبة لتحقق آثارها، مانعة عن التلبس بأضدادها من آثار الجبن والتهور والخمود والشره والبخل والتبذير." (تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج 5 ، الصفحة 78).

  مستدلا بقوله تعالى : (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم) (النساء: 113)، حيث عبّر عن الكتاب والحكمة بالإنزال بينما عبّر عن العصمة بالعلم.

    أما أصحاب الاتجاه الثاني أمثال الشيخ المفيد (قدّس سرّه) ، فذهبوا إلى أن العصمة: (لطفٌ يفعلُهُ اللهُ تعالى بالمكلّف، بحيث تمنع منه وقوع المعصية، وترك الطاعة، مع قدرته عليهما). (النكت الاعتقادية|الشيخ المفيد 10: 37 مصنّفات الشيخ المفيد ط ـ المؤتمر العالمي)

  والقائلون بأنّ العصمة لطف إلهي، ذكروا أربعة أسباب تكون هي المنشأ لتحقق اللطف وحصول العصمة، قال العلامة الحلي (قدّس سرّه):

"وأسباب هذا اللطف أمور أربعة:

أحدها: أن يكون لنفس المعصوم أو لبدنه خاصية تقتضي ملكة مانعة من الفجور وهذه الملكة مغايرة للفعل. الثاني: أن يحصل له علم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات. الثالث: تأكيد هذه العلوم بتتابع الوحي والإلهام من الله تعالى. الرابع: مؤاخذته على ترك الأولى بحيث يعلم أنّه لا يترك مهملا بل يضيق عليه الأمر في غير الواجب من الأمور الحسنة. فإذا اجتمعت هذه الأمور كان الانسان معصوماً." (الحلي: كشف المراد، ص494)

  يُستنتج مما تقدّم أن العصمة نوع من العلم عند أصحاب الاتجاه الأول، بينما أصحاب الاتجاه الثاني فيرون العلم من روافدها وركائزها.

    والعلم هنا درجة من الانكشاف، وقد يكون  "علم اليقين" أو "عين اليقين" أو "حق اليقين"، فهو و إن كان كله علم إلا أنه درجات متفاوتة. المثال الأول: علم الإنسان بالنار إذا رأى دخانا يعلم بأن هناك نارا، هذه أول درجة من دراجات العلم تسمى «بعلم اليقين»، ثم يمضي فيرى النار بعينيه فيترقى من درجة علم اليقين إلى درجة «عين اليقين» ، وإذا وضع يده على النار وأحس بحرارتها ولذعتها وصل إلى أعلى درجات العلم ألا وهي درجة «حق اليقين»، وهذا ما دلت عليه السورة المباركة: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر «1» حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ «2» كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ «3» ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ «4» كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ «5» لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ «6» ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ «7» ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ «8»﴾، وقوله عز وجل: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (سورة الواقعة:95).

  فالإنسان العادي يمكنه الوصول إلى بعض درجات العصمة كدرجة "عين اليقين"، لكن لا يمكنه الوصول إلى درجة "حق اليقين" لتفوق علم الأنبياء والأئمة عليهم السلام.

وعليه، فإن هذا العلم ــــ عين اليقين ــــ هو ما جعل العباس (ع) لا ينادي الحسين (ع) إلا بسيّدي ومولاي، وهو ما يكشف عن كفاءة السيدة أم البنين في تنشئة أبناء أوصلتهم إلى درجة من العلم يعرفون بها مقام الأئمة عند الله تعالى؛ كما تعرفها هي حق المعرفة حين سألت الناعي عن ما حلّ بالإمام الحسين (ع) قبل أن تعرف ما حلّ بأبنائها الشهداء.. وفي ذلك إيثار يسبقه دافع وتكليف ديني لم تكتمل الرسالة النبوية إلا به، وهو "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!" .. فلم يشأ العباس إرواء عطشه والحسين (ع) أولى بالماء منه، ولم تشأ أم البنين (ع) تقديم السؤال عن أبنائها لأن الحسين (ع) أولى من أولادها إليها .. وإنه لثبات عظيم للدين وسموّ فريد لمكارم الأخلاق!

5  .النظرة المتكاملة للناشئ:

إن الناشئ الطفل، هذا الإنسان الخام فيه جوانب عدّة تحتاج إلى عناية وتغذية تربوية:

ـــــ الجانب العاطفي

ــــ الجانب العقلي

ـــــ الجانب الغريزي 

ـــــ الجانب الذوقي

ـــــ الجانب القلبي الروحي الايماني

ـــــ الجانب السلوكي الفردي والاجتماعي

ـــــ الجانب الوظيفي

ــــ الجانب التعليمي والمهني

الاهتمام بجانب دون الآخر يقلب الاهتمام إهمالا، بل لا يحسن اعتباره اهتماما، لأنه نظرة تقزّمية وانكماشية تفتقد إلى الشمول والأفق الواسع .. فقد نهتمّ بالجانب الدراسي ونهمل الجوانب الأخرى. فنخرّج إنسانا ناجحا في الدراسة لكنه فاشل على مستوى الأخلاق والدين، ولا يحسن أن يكون قدوة لأحد.

فالسيّدة أم البنين (ع) غذّت بنظرتها الشمولية كل هذه الجوانب في الإنسان الخام حتى أضحت هي وأولادها قدوة يُتقفّى أثرها من الحالمين بشيء من مقامهم الرفيع في الدنيا والآخرة.

6 . التربية بالقدوة:

    لا شك في أنها سلام الله عليها قد ربّت أولادها على القدوة: الإمام علي (ع) والحسنين (ع). فخرّجت نسلا أشبه ما يكون بالمعصومين حتى استحقّوا من الله الشأن العظيم والمكانة الرفيعة.

7. التربية بالآبائية الهادية:

    لقد ورد في كتاب الله ما يذمّ الآبائية، حيث قال عز وعلا: "إِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ ۗ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْـًٔا وَلَا يَهْتَدُونَ"(البقرة: 170). لكنها آبائية ضالّة مضلّة استحقّت الذمّ والتحذير، إلا أنه قد ورد في كتاب الله أيضا ما يمتدح الآبائية المهتدية الهادية، حيث قال عز وجل: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنۢ بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَٰهِۦمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ إِلَٰهًا وَٰحِدًا وَنَحْنُ لَهُۥ مُسْلِمُونَ" (البقرة: 133).

    فالسيّدة أم البنين (ع) بما جاءت محمّلة به من تربية آبائها وأجدادها؛ أكّدت أن الآبائية المهتدية والهادية لا بأس في غرسها في نفوس الأبناء طالما تتوافق مع صراط الله المستقيم.

8. التربية عن طريق الدفع بالتي هي أحسن:

    التربية في أيامنا هذه يطغى عليها طابع الدفع بالتي هي أعنف! ولعلّنا نتعلّم من السيدة أم البنين (ع) كيف كانت تربيتها قائمة على الحب والنصيحة لا على السلطة والعنف. لقد أقامت علاقة حب نموذجية بينها كزوجة أب وبين أولاد زوجها، وبين أولاد زوجها وأولادها حتى أوثقت رباط الأخوّة بآصرة العقيدة أولا حبّا في الله، وبآصرة القرابة ثانيا حبّا وتقديسا لرباط الدم.

9. الأخلاق في منهجها ترجمان الدين:

    وهو منهج قرآني يجعل مستند الخلق الرفيع دينيّا، وهكذا؛ فإننا نجد في القرآن بمعدل كل صفحة تقريبا مرة إلى ثلاث مرّات ترسيخاً للمبادئ القيمية؛ كالعدل والرحمة والعفو والصدق والمودة ...إلخ، كقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ" (الممتحنة: 1)، وقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا"(الأحزاب 70 – 71).

   فإما أن يمتثل الإنسان إلى الأخلاق الحميدة ترغيبا كتقوى الله أو ترهيبا خشية منه سبحانه وتعالى.

   وهو عموما منهج توعية وتربية اعتمدته أم البنين (ع) حتى وُصف ابنها العباس (ع) بساقي العطاشى، وكفيل زينب (ع)، وكبش الكتيبة .. بنفس ما اتصف به من الدين والورع هو وإخوانه الأربعة سلام الله عليهم.

   وهذا إنتاج تربوي ليس بمستبعد عن أم البنين (ع) التي طلب من الإمام علي (ع) إلغاء اسمها حفاظا على مشاعر أولاده إذا ما سمعوا اسم "فاطمة" فتذكّروا أمهم بالبكاء .. وفي هذا ارتقاء من عقدة الأنا التي هي عقدة معظمنا اليوم مع الأسف. فالزوجة في عصرنا تدخل معبأة منذ اليوم الأول من زواجها بنظرية "ذبح القط"! وكلّما تحكّمت بزوجها؛ شعرت بانتشاء وتفاخر، وأصابتها العظمة في نفسها والغرور! بالرغم من أن المسألة تفاهم وتشارك وإثبات للوجود بالعدل والإنصاف لا بالغلبة والإجحاف .. تقديرا لتمايز متطلّبات الأنوثة والذكورة في أدوار تليق بأحدهما أو بكليهما، وهو توزيع موضوعي منه تعالى للمهام بين الزوج والزوجة.

خلاصة

   أعتقد أننا نحن النساء المسلمات لا نعاني من أزمة نقص القدوة؛ فالشخصيات العظيمة على وفرة في ديننا عموما ومذهبنا خصوصا .. إنما الأزمة فينا وفي ما أقنعنا به أنفسنا من "تنسيب الدين والأخلاق" فقط لأننا لسنا بمعصومين ..

إلا أن النسبية تكمن في ما نتشرّبه من هذا الدين وهذه الأخلاق بنسب متفاوتة نحن المسؤولون عنها إذا ما عزّزناها أو أهملناها، وما قصصناه اليوم مجانبة لواقعنا المرّ ما هو إلا تأكيد على أن النسبية أعلاه نحن المعنيّون بها تجاه الدين والأخلاق وليس العكس ..


فيديو | البث المسجل الكامل للبرنامج


صور منوعة من البرنامج

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى